عندما يناديك الحنين للكتابة .. جواد النابهي

رواها 360:

لفترة طويلة غابت الكتابة على حائط صفحتي الشخصية في منصة الفيسبوك بإستثناء تلك التي تتعلق بالقانون والقضاء، لم أخطُ حرفًا واحدًا ولم امتدح شخصًا، ليس لعدم الرغبة في الكتابة أو تساهل مني في تركها، بل ربما لانشغالي بالتحصيل العلمي أو لربما حنق بيني وبين الكتابة لا أعرف سببه؛ لكن اليوم ها أنا ذا أعود مدفوعًا بحنين غامض يجذبني نحو ذلك القلم المركون على رفِ غرفتي المتواضعة والمظلمة ، ونحو تلك الأوراق التي أصفر لونها بفعل الغبرة ، انزوي في زاويتي لأكتب عن ما يجول في خاطري.

أعود اليوم للكتابة بكلِ شوقٍ لرص حروفي التي باتت منذُ فترةً ساكنة لا رفَ لها ولا جفن، أحتضن القلم بين اصبعي السبابة والإبهام ، كما يحتضن الصديق صديقه الغائب منذ فترة، وشعور الفرح يداهم قلبي ؛ هل تعرفون معنى أن يكون أحدكم في حضرة من يحب ، أنا اليوم في شعوري كشعور من يكون في حضرة تلك اللحظة بتلك الهيبة ذاتها.

مقالات ذات صلة

ففي زمنٍ طغى فيه الصَّخَب على السَّكينة، والضَّجيج على المعنى، والمصلحة على المبدأ، قد يجد الإنسان نفسه محاصرًا من كافة الجهات، ليشعر بأنه لا طمأنينة في قلبه، أو أمان في رزقه، أو حتى أمل في غده.

لذلك، إذا كُنا قد ابتُلينا أحيانًا بنَكَبَات عارضة، فإن ما نعيشه اليوم بمثابة سياقٍ ممتدٍ من الألم، بعد إنهيار كثير من القِيم تحت وطأة أعباء الحياة، ولم تعد الأزمة فقط في ضيق العيش، بل تعدت ذلك إلى ضياع المعنى.

الآن، لم تعد الأزمة في اليمن مجرد خلل إقتصادي أو أزمة عابرة في السياسات، بل عديد من الأزمات المُرَكَّبة، التي تُهدد حاضر الأمة ومستقبلها، وبالتالي لم يعد الواقع يحتاج إلى توصيفات إنشائية أو شعارات صاخبة.

قد يتساءل البعض: ماذا نفعل أمام «اقتصاد» مثقل بديون لا سقف لها، وانهيار في قيمة العملة (وأن كان هناك تراجع نسبي لا أمان له) ، وتضخم يبتلع دخول المواطنين بلا رحمة .. وماذا نفعل إزاء «تعليم» تحوَّل إلى منظومة فاقدة للغرض، لا تُعلِّم ولا تُهذِّب، بل تُخرِّج أجيالًا مشوشة، لا تمتلك أدوات التفكير ولا مفاتيح المستقبل؟

كما تتوالى الأسئلة: ماذا نفعل أمام «صحة» صارت ترفًا لا يُتاح إلا للقادرين، بينما يواجه الملايين المرض بلا دواء ولا رعاية .. وماذا نفعل إزاء «قِيم مجتمعية» تهشّمت تحت ضغط الاستهلاك، والتهميش، وفقدان الأمل، فتراجعت الأخلاق، وغاب الضمير، وارتفعت معدلات الجريمة .. ثم ماذا نفعل أمام «إعلام» يصنع واقعًا مغايرًا لكل ما يشعر به المواطن البسيط؟!

وهنا يجب أن نفهم ماذا يُريد المواطن من الدولة، التي يراها تديره، لا من أجل تنميته، بل من أجل تحصيل المزيد من الجبايات، واعتقاده بأن الواقع المرير ليس نتيجة فشل إداري فقط، بل نتيجة تهميش الإنسان، الذي لم يعد يشعر بأنه شريك، أو حتى محل اعتبار!

إذن، حين يصل الوطن إلى هذه الدرجة من التردِّي، فإن التطبيع مع هذا الواقع البائس خيانة للأمل، ولذلك نعتقد أن ما نشاهده اليوم لا يُختزل في أرقام الاقتصاد، ولا يُفهم فقط من زاوية الفقر أو التضخم أو تراجع الخدمات، لأن الأزمة الحقيقية أعمق وأخطر .. إنها أزمة قِيم.

عندما تتراجع الأخلاق، ويصبح الغش «فضيلة»، والخداع «شطارة»، والكذب «سياسة»، تتغير ملامح المجتمع؛ ليس لأن الناس شريرة بطبعها، بل لأن الضغوط طحنت النفوس، فغابت القدوة، وانهارت منظومة التربية والتعليم، في ظل تفشي ثقافة «التيكتوك»!

لذلك نعتقد أن الدولة تُبنى بالضمير، وتُحمى بالمروءة والعدل، والإحساس بالمسؤولية، وعندما تحاصر الأزمات الناس، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لم يبقَ لهم سوى الله، واللجوء إليه .. ليس انسحابًا من الواقع، ولا تهرّبًا من المسؤولية، بل هو استعادة للبوصلة حين تفقد الأرض اتجاهها، كما أنه اعتراف عميق بالعجز البشري، وتوقان داخلي إلى العدل الإلهي.

إن اللجوء إلى الله لا يعني أن نترك الدنيا لأهلها، بل أن نحيا فيها بمعيّة المولى سبحانه، وأن نحفظ إنسانيتنا في بيئة تُشوّه الإنسان وتُحقِّره، كما أن اللجوء إليه هو بداية الطريق نحو الإصلاح الحقيقي، لأنه يُعيد ترتيب الأولويات، فتصير الكرامة قبل الخوف، والحق قبل التبعية، والإصلاح قبل المكاسب، والضمير قبل المناصب.

إن أولى خطوات الخروج من هذا النفق المظلم هي أن نستعيد العلاقة الصافية مع الله .. علاقة المحبة والثقة والتوكل واليقين بأنه سبحانه يستجيب الدعاء، ولو بدا كل شيءٍ عكس ذلك، وأن اللجوء إلى الله هو آخر الحصون وأقواها، فإذا ما هُدمت كل الأسوار، وبقي هذا الحصن قائمًا في القلب، كان كافيًا لبدء بناء جديد، على أساس سليم، لا يهتز مع أول ريح.

أخيرًا .. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى للغُرَبَاءِ»، وعندما سئل المصطفى مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ”، لذلك ننصح أنفسنا وغيرنا بقول بعض السلف الصالح: «لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى